“صوت خطوات أقدام زوجي في البيت أفضل من كل أولادي”

كتبت نور أبو غيث
بيت يملئه الشجر الأخضر الجميل ما أن تدخله حتى تشعر برحابة بالصدر، لا تسمع إلا صوت زقزقة العصافير، وصوت الأشجار المتحركة بفعل نسمة الهواء الباردة، عندما تقترب من باب البيت تكاد تُوقن بعدم وجود أحد في المنزل، للهدوء الذي يعم المكان، ما أن يبدء الأمل بالتلاشي في وجود أحد حتى يعود بريق الأمل كالسيف ليشق اليقين الذ…ي كان.
جالسة على كرسيها، مرتدية النظارات التي تخفي جمال لون عينيها الخضراوتين، واضعة على رأسها عصبة حمراء لتمسك “الشاشية” البيضاء التي تغطي شعرها الذي يظهر منه خصلة ملونة بلون الحناء، تنظر إلى وجهها تتأكد بأنها في أيام شبابها كانت من جميلة الجميلات، تمسك بيدها الإبرة وتنسج الصوف، تمتليء الأريكة بأعمالها التي أنجزتها من النسيج، جلسنا بجوارها وبدأت تتحدث وتتحدث ” صوت خطوات أقدام زوجي في البيت أفضل من كل أولادي، لأنه لا يوجد بعد وجود الزوج في البيت، فهو يغنيك عن جميع الأولاد بوجوده بجانبك”.
امرأة بعقدها الثامن تسكن في منزل كبيرعليها، بِكُبر عمرها الخامس والثمانين، تراه مرتب وأنيق فتصلك فكرة بأنها امرأة نظيفة ومرتبة، تضحك وتطلق النكات وتحدثنا عن قصص الماضي وكأنها تعيش فيها للآن، لم تنفك الإبتسامة عن شفاهنا أنا وصديقتي ونحن نستمع إلى كلامها التي تقوله بأسلوب جميل ومضحك.
تصرعلى تقديم الضيافة لنا في منزلها وتقول “سوف أذهب إلى المطبخ وأُحضر لَكُّن الضيافة، ولكن إن ناديت عليكُّن فعلمن أني لم أعد أستطيع الوقوف على أقدامي، حتى تأتين لمساعدتي” قلنا لها:” دعينا نحن من نحضّرها” قالت مازحة: “لا أُدخل أحد مطبخي حتى لاتسرقوا ما فيه “، ضحكنا من كلامها، قامت وظهرها المتقوس من كدر هذه الحياة، وأمسكت عصاها التي تعتكز عليها قائلة” كانت عكازي أجمل من هذه لكن أحد ما سرقها”.
سرحت بخيالي لوهلة من الزمن وراودتني الكلمات التي تعبر عن هذه المرأة التي تعيش بمفردها، والتساؤولات لعدم إقامة أي من أبنائها معها، ألا يخافون عليها؟ كيف لهم قلب بتركها تعيش حلكة الليل وهي لوحدها في منزل كبير مثل هذا؟ ألا يراودهم الخوف بأن تتعرض لوعكة -لا سمح الله- وهي بمفردها؟ كيف سيسامحون أنفسهم؟ انقطع علي التفكير بصوت ينادي من المطبخ ” يا بنات ” قمنا فازعات خائفات بأن يكون قد حصل لها شيء، فإذا هي تنادينا لكي ترينا قطع من الصوف نسجتها.
استمتعنا جدًا ونحن نستمع لحديثها، وتعالت أصوات ضحكاتنا ونسينا ما حضّرنا من أجله وهو إحضار النعنع ، وأتى موعد الرحيل عن هذه المرأة العظيمة التي تكافح لوحدها رغم وجود أولادها، ولكن القدر شاء أن تبقى لوحدها في كهولتها دون معيل أو معين يعينها في كبرها،أنجبت وكبّرت أولادها وعلمتهم لأنهم زينة الدنيا ومتاعها، ولكن هذه الزينة أبت أن تبقى معها ورحلت وتركتها لتبقى وحيدة تصارع الحياة بعزيمتها واصرارها على البقاء.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *